"Today News": بغداد
منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، والعالم يتعهد بعدم تكرار الفظائع التي شهدها في الحربين العالميتين. لكن ما نراه اليوم، وبالأخص في غزة، يكشف انهيارًا صادمًا لهذا الالتزام الأخلاقي والحقوقي، في ظل عالمٍ تتزايد فيه الانتهاكات، وتتلاشى فيه المساءلة، ويتعمق فيه الصمت الدولي المُخزي.
لم يعد الصراع بين الخير والشر مجرّد مفهومٍ نظري؛ بل أصبح واقعًا ملموسًا حينما تتحوّل المؤسسات الدولية إلى أدوات عاجزة، ويُترك المجرمون يرتكبون أفظع الجرائم تحت حماية “شرعية” زائفة. نحن لا نتحدث عن انحرافات فردية، بل عن بيئة دولية تُفرز أشرارًا جددًا، مدعومين بغياب الرادع، وتفكك منظومات العدالة العالمية.
غزة: نموذج صارخ لانهيار منظومة حقوق الإنسان
ما يحدث في غزة ليس نزاعًا مسلحًا تقليديًا، بل جريمة إبادة جماعية مستمرة تُرتكب بدمٍ بارد ضد شعب أعزل يُحاصر ويُقصف ويُجوع ويُحرم من أدنى مقومات الحياة. آلاف الأطفال والنساء يُقتلون، والمستشفيات تُقصف، والمدارس تُهدم، وكل ذلك يحدث أمام عدسات الكاميرات، ولكن بلا أي تحرّك رادع.
وينسحب هذا المشهد كذلك على ما يجري في سوريا من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تشمل القتل الجماعي، والتطرف، والتمييز الطائفي، وخرق سيادة الدولة من قبل كيان الإبادة الجماعية ودول أخرى متورطة.
لماذا تتفاقم هذه الانتهاكات؟
1. غياب المساءلة والعقاب
حين يفلت المجرمون من العقاب، ويتحوّل القتل الجماعي إلى حدث “عابر” في نشرات الأخبار، فإنهم يُمنحون الضوء الأخضر للاستمرار في فظائعهم. إن فشل المنظومة الدولية في محاسبة المعتدين يعزّز ثقافة الإفلات من العقاب.
2. تسييس حقوق الإنسان
تُستخدم قضايا حقوق الإنسان كأدوات ضغط سياسي وانتقائية مفضوحة، إذ تُدين دولٌ ما تفعله خصومها، لكنها تصمت تمامًا أمام جرائم حلفائها. هذا النفاق يُقوّض مصداقية القانون الدولي ويحوّل الضحية إلى مجرم إذا تغيّرت الحسابات.
3. التحايل القانوني وتزييف الشرعية
يلجأ كيان الاحتلال إلى ذرائع قانونية مشوهة كـ”حق الدفاع عن النفس” – لتبرير جرائمه، ويجد من يدعمه في المحافل الدولية رغم انتهاكه الصريح لأبسط قواعد القانون الإنساني الدولي.
4. إسكات صوت الضحايا والإعلام الحر
تُمنع فرق الصحافة المستقلة من دخول مناطق القصف، وتُغتال أصوات الشهود، ويُحاصر الضحايا بصمت الإعلام العالمي الخاضع للرقابة والمصالح، مما يتيح للمجرمين التحرّك في الظل دون محاسبة.
5. الصمت الدولي والتواطؤ المخزي
حين يصمت مجلس الأمن، وتتردد الدول المؤثرة، ويتحوّل الدم المسفوح إلى أرقام باردة في تقارير رسمية، فهذا يعني بوضوح أن النظام العالمي يفضّل الاستقرار الزائف على العدالة الحقيقية.
هل يمكن وقف هذا الانهيار الأخلاقي؟
نعم. لكن ذلك يتطلّب حركة جماعية، مستمرة، ومتعددة المستويات:
أ. التوثيق وفضح الجرائم بلا توقف
ينبغي كشف الانتهاكات بالصوت والصورة، وتقديم الملفات الموثقة إلى المحاكم الدولية، مع تجاوز الاكتفاء بالتنديد أو البيانات.
ب. الضغط السياسي والاقتصادي الحقيقي
على الدول والمجتمعات فرض عقوبات اقتصادية وسياسية على الأنظمة التي ترتكب الإبادة أو تدعمها. لا بد أن يكون للجرائم كلفة تُرهب مرتكبيها.
ج. دعم المنظمات الحقوقية المستقلة
يجب تمكين المؤسسات الحقوقية غير المنحازة، وتوسيع صلاحياتها، ودعم جهودها في التوثيق والمساءلة والمحاكمات الدولية.
د. تحريك الرأي العام العالمي باستمرار
المظاهرات، الحملات الشعبية، الإعلام، ووسائل التواصل أدوات فعّالة. صوت الشعوب حين يتوحد يمكنه زلزلة عروش الظالمين، وإن طال الزمن.
كلمة أخيرة: من المسؤول؟
المشكلة لا تكمن في “شر الإنسان” وحده، بل في البيئة التي تتيح لهذا الشر أن يعمل بلا حسيب أو رقيب. حينما تصمت الدول، وتتخاذل المنظمات، وتُخنق الأصوات، فإن الوحشية تنتصر.
فأين هو دور المجتمع المدني العالمي؟
هل ستبقى المنظمات، والمثقفون، والناشطون مكتوفي الأيدي بينما تُرتكب المجازر؟
وهل يجوز للصمت أن يُلبس ثوب الحياد، بينما تُستباح كرامة الإنسان كل يوم؟
إذا سكت العالم، فعلى الإنسانية أن تصرخ.
وإذا نام الضمير الدولي،
فعلى الشعوب الحرة أن تستفيق وتنتفض.
الدكتور وليد الحلي
الأمين العام
مؤسسة حقوق الإنسان
25 تموز / يوليو 2025