الرئيسية / نحو تفعيل رأس المال الاجتماعي في العراق

نحو تفعيل رأس المال الاجتماعي في العراق

"Today News": بغداد 

لم تتحقق نهضة وطنية شاملة، في أي تجربة تاريخية معاصرة، من دون حضور قوي وفاعل لرأس المال الاجتماعي. فشبكة العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية القائمة على الثقة والتعاون والقيم المشتركة، والحاملة لفكرة النهوض والتحديث، تمثل رافعة تنموية قادرة – في كثير من الأحيان – على تعويض نقص الأصول المادية أو استكمال ضعفها، شريطة أن تتوافر لها بيئة سياسية وقانونية وإدارية مساندة، تفهم دورها وتفسح لها المجال لأداء مسؤولياتها العامة.

وقد بيّن عالم السياسة  روبرت بوتنام، في تحليلاته حول أداء الديمقراطيات والتنمية المحلية(1993)أن المجتمعات التي تمتلك مستويات عالية من الثقة المتبادلة، والشبكات الأفقية للتعاون، والعمل المدني المنظم، تكون أكثر قدرة على إنجاح السياسات العامة وتحقيق التنمية، حتى في ظل موارد مادية محدودة. وهو ما يجعل رأس المال الاجتماعي عاملًا حاسمًا لا يقل أهمية عن رأس المال الاقتصادي أو البشري.

انشغلت نظريات التنمية طويلاً برأس المال البشري بوصفه العنصر الأهم في الابتكار والتخطيط والتنفيذ وصياغة الأهداف، وأثبتت التجارب العالمية أن النمو الاقتصادي والنهوض التنموي مشروطان بوجود كادرات بشرية مؤهلة قادرة على إدارة وتحفيز عمليات التنمية البشرية والمادية. غير أن تلك التجارب نفسها بيّنت أن تراجع رأس المال الاجتماعي، أو تهميشه، يقود بالضرورة إلى إضعاف مسارات الثقة بين المجتمع والسلطة، ويقوض قدرة الدولة على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة.

وفي هذا السياق، يذهب جيمس كولمان عالم الاجتماع الامريكي إلى أن رأس المال الاجتماعي يتمثل في قدرة البُنى الاجتماعية والعلاقات المتبادلة على تسهيل الفعل الجماعي، وتحويل القيم والمعايير والثقة إلى موارد عملية تدعم الاستقرار والتنمية. وعندما تتفكك هذه البُنى، أو تُترك بلا توجيه وتحفيز، فإن كلفة الفعل العام ترتفع، وتتآكل فعالية المؤسسات، مهما بلغت كفاءة القوانين أو الخطط(1988).

رأس المال الاجتماعي، بهذا المعنى، ليس ترفًا نظريًا ولا مفهومًا إنشائيًا، بل ضرورة تنموية وأمنية في آن واحد، ورافدًا حاسمًا يدعم السياسات العامة، وينشط الوعي المجتمعي، ويوحّد الجهود باتجاه تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

تتجلى صور رأس المال الاجتماعي عمليًا عندما تتشكل لجان الأحياء والمدن والقرى لتؤدي وظائف مباشرة في حماية الأمن المجتمعي، والحفاظ على النظافة العامة، وتقديم الرعاية الصحية الأولية، والتجميل الحضري، والزراعة، ومراقبة التعديات على الممتلكات العامة، والمساهمة في تنفيذ القوانين. قد تبدو هذه الممارسات بسيطة أو هامشية في واقع العراق المضطرب، غير أن المراقب يدرك بوضوح وجود فجوة عميقة بين السكان والمؤسسات الحكومية، واتساع دائرة الكسل الاجتماعي إلى مستويات مقلقة، حيث تراجع الفعل المجتمعي المنظم، وضعفت المبادرات التي تهذب الذوق العام وتحمي القانون وتبادر إلى الحل، في بلد يعاني أصلًا هشاشة مؤسساتية، وتخلفًا إداريًا، وعقلية اتكالية تنتظر من الدولة – بكل ضعفها – أن تقوم بكل شيء، ثم تكتفي بممارسة نقد سلبي عقيم.

لقد عشنا طويلًا في ظل ثقافة نقدية استهلاكية، فككت الظواهر وعرّت الإخفاقات، لكنها أخفقت في بناء عقل اجتماعي بنّاء، قائم على المبادرة والفعل الجماعي، ودعم المنجز الفردي، وتشجيع الابتكار، وتعزيز الإبداع. وكانت نتيجة هذا النموذج الثقافي تراجع مساهمة رأس المال الاجتماعي في التنمية، وانخفاض المؤشرات العامة، وتشتيت الجهود الحكومية المحدودة أصلًا، في محاولة الاستجابة لمتطلبات إدارة دولة معقدة بإمكانات ضعيفة.

يزخر العراق بمؤسسات اجتماعية ونقابية ودينية ومدنية واسعة، لكنه يعاني ضعفًا مزمنًا في تأطيرها وتوجيهها وتحفيزها نحو العمل الميداني المباشر. وبموازاة ذلك، تتقاعس مؤسسات الدولة عن تشجيع المبادرات المجتمعية، ولا يسهم الإعلام – إلا نادرًا – في خلق بيئة محفزة للعمل الاجتماعي، إذ انصرف معظمه إلى الصراعات السياسية والمناكفات الحزبية اليومية، على حساب تسليط الضوء على النماذج الإيجابية والنجاحات الصامتة.

نحن بحاجة ماسة إلى ريادة اجتماعية تتجاوز ريادة الدولة، وتحرّك المبادرة الفردية والجماعية. ففي دول عديدة، يتولى رجال أعمال ورأسماليون كبار رعاية المشاريع الثقافية والعلمية والاجتماعية، وتُمنح جوائز معتبرة في الأدب والعلوم والابتكار، وتنشط مؤسسات خيرية لسد الحاجات الاجتماعية. في المقابل، أخفق العراق في محاكاة تجارب قريبة وبعيدة في رعاية الموهوبين والمبدعين والمفكرين والتقنيين والصناعيين.

حين تضع الدولة جوائز سنوية معتبرة لأفضل المنجزات في العلوم الاجتماعية والإنسانية، والأدب، والترجمة، والابتكار، وحين تُسلَّط الأضواء على إنجازات رجال الأعمال والناشطين والمؤسسات المجتمعية، فإن ذلك لا يكرّم الأفراد فحسب، بل ينشّط ثقافة العمل التطوعي، ويخلق تنافسًا صحيًا، ويوجّه طاقة المجتمع نحو العمل المنتج الخلّاق.

لا ينبغي للعراق أن يتخلف عن ركب الدول الأخرى، مكتفيًا بما أنجزته مؤسسات الدولة المحدودة، فيما يسكت المجتمع عن تقييم دوره ومسؤوليته، حتى اقترن اسمنا بضعف المنتج، وقلة الجودة، وتراجع المستوى. فالعراق لا يعاني فقرًا في العقول ولا عقمًا في المواهب؛ إنه لا يكف عن إنجاب الأذكياء والنابهين والمبدعين، لكن هذه الطاقات تموت بصمت، تحت وطأة الكسل العام، وضعف المؤسسات، وغياب المشروع الوطني الواضح، وتشوش المسؤوليات والأهداف.

إن تفعيل رأس المال الاجتماعي يتطلب إرادة مشتركة من المجتمع والدولة، تقوم على تشجيع العمل الإبداعي الفردي والجماعي، ووضع منظومات تحفيز وجوائز لكل نشاط متميز في إنجازه وأثره وغاياته. فلا مشروع تنموي يمكن أن ينجح برأس مال بشري معزول، أو بمجتمع ينتظر دولة هشة لتفعل ما لا تملك أدواته. التنمية الحقيقية تبدأ عندما ينهض رأس المال الاجتماعي مدركًا دوره، فاعلًا في مسؤوليته، شريكًا في صناعة  المستقبل .
اليوم, 13:44
عودة