• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

ما أهونَ الموتَ في سبيلِ العزّ... تأملاتٌ في ملحمةِ الطفّ الخالدة

ما أهونَ الموتَ في سبيلِ العزّ... تأملاتٌ في ملحمةِ الطفّ الخالدة

  • أمس, 21:08
  • مقالات
  • 32 مشاهدة
د. محمد عصمت البياتي

"Today News": بغداد 

في كل عام، حين يُطِلّ هلالُ المحرّم، يُبعث الحزنُ من تحت رماد القرون، وتُستنهض القلوب المؤمنة من مرقد السكون، فتنبض بحُرقةٍ لا تخبو، وتنوح بدمعٍ لا ينضب، إذ يُجَدّد الزمن ذكريات أعظم فاجعةٍ حطّت على صدر الإنسانية... فاجعة كربلاء.

هناك، على أرضٍ قدّستها الدماء الطاهرة، في اليوم العاشر من شهر محرّم الحرام، عام 61 للهجرة، سُطّرت بمداد الدم أبلغُ ملاحم البطولة، وارتفعت رايةُ الحق شامخةً في وجه الظلم، بين الحسين بن عليّ، سبطِ رسول الله، ويزيد بن معاوية، رمز الانحراف والطغيان.

كربلاء لم تكن مجرد واقعةٍ عسكرية، ولا معركةً عابرةً في كتاب التاريخ، بل كانت نداءً سماويًا يخترق طبقات الزمان، وصيحةً رساليةً خالدة، فيها وقف الحسين عليه السلام شامخًا كجبلٍ لا تهزّه العواصف، حاملاً مشروع الإصلاح، ومناديًا:

"إني لم أخرج أشِرًا ولا بَطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي."

في فجر ذلك اليوم المهيب، وقف الحسين ومعه قِلّة من الأوفياء، لا يبلغون السبعين، يقابلهم جيشٌ كالسيل، حشدته السلطة لقتل الكلمة وسحق الكرامة. لم تكن المعركة متكافئة في العدد، لكنها كانت صراعًا بين النور والظلام، بين الروح والمادة، بين المبادئ والوحشية.

في عاشوراء...
سقط القاسم، ورديفُ العفاف الطاهر.
سقط عليّ الأكبر، بهاءُ الهاشميين وشبهُ الرسول.
وسقط عبد الله الرضيع، وهو لم ينطق بعد، إلا بصراخ العطش... قُتل بين يدي أبيه بسهمٍ خبيثٍ اخترق حنجرته الغضّة، فرفعه الحسين عاليًا، وقال: "هون ما نزل بي أنه بعين الله."

واحدًا تلو الآخر، غابت شموس الطهارة، حتى بلغ العباس، قمر بني هاشم، سدرة الشهادة، فخرج يستسقي الماء لأطفال الحسين، فقطعت يمينه، ثم يساره، وسقط على ضفاف العلقمي، مناديًا:

"أدرك أخاك يا أبا عبد الله!"

ثم جاءت اللحظة الحاسمة... لحظة الانفراد بالمصير، حين لم يبقَ إلا الحسين وحيدًا، تحيط به الأجساد المقطّعة، والدماء المسفوكة، والنساء المفجوعة، والأطفال العطاشى. فوقف ذلك البطل الإلهي على رمضاء الطفّ، ينادي:

"ألا من ناصرٍ ينصرنا؟ ألا من مغيثٍ يغيثنا؟ ألا من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله؟"

لم يكن الحسين يطلب النصرة من أهل الأرض، بل كان نداءه بوّابةً للتاريخ، يستنهض بها الضمائر، ويزرع بها بذور الثورة في قلوب الأحرار.

ثم ركب جواده، وهو ينزفُ من جراحٍ لا تُعدّ، وقاتل قتال من يوقن أن الخلود في الموت، وأن الدم إذا كان نقيًا، فإنّه أبلغ من كل سلاح. حتى إذا أثخنته السيوف، وسقط من على ظهر جواده، جاء شمر، فاعتلى صدره الطاهر، وذبحه كما يُذبح الكبش، بلا وازع من ضمير أو رحمة.

وهكذا رُفِع رأس الحسين على الرمح، يُحمل بين السهام واللعنات، وهو يُسبّح الله، ويُشعّ من جبينه نور الرسالة.

أجل، كانت فاجعة كربلاء جرحًا لا يُشفى، ولذلك جاء في الأخبار:

"إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسال دموعنا، وأذلّ عزيزنا."

*عاشوراء... في ضمير الإنسانية كلّها*

لقد تجاوزت كربلاء حدود الدين والمذهب، واخترقت جدران العقيدة، لتصبح أيقونة خالدة في ضمير الإنسانية جمعاء. لم تكن دماء الحسين وقفًا على وجدان المؤمنين وحدهم، بل أثّرت في وجدان كل حرٍّ في العالم، حتى نطق بذكره من لا يؤمن بنبوّة جدّه، احترامًا للموقف، وإجلالًا للفداء.

قال المهاتما غاندي، زعيم الثورة اللاعنفية في الهند:

"تعلمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر. لقد علّمني الحسين أن أكون منتصرًا رغم الهزيمة."

أما الفيلسوف الإنجليزي توماس كارلايل فقد رأى في كربلاء تجليًا لعظمة العقيدة، فقال:

"أفضل درس نتعلمه من مأساة كربلاء هو أنّ الحسين وأصحابه كان لهم إيمانٌ راسخ بالله، وقد أثبتوا بعملهم أن التفوّق العددي لا يُهمّ حيث تكون العقيدة صلبة."

وكتب أنطوان بارا، المفكر المسيحي اللبناني، في كتابه "الحسين في الفكر المسيحي"، كلمات تقطر وفاءً:

"لو كان الحسين منا، لنصبنا له في كل أرض منبرًا، وأقمنا له في كل بلد راية، ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين."

حتى الرحّالة البريطانية "فرييا ستارك"، لم تُخفِ تأثرها، فقالت:

"إن مأساة الحسين بن علي تمثّل أعظم ما في الإنسان من البطولة، فقد أثبت أن الشجاعة والإيمان يمكن أن ينتصرا على القوة."

هكذا تجلّى الحسين صوتًا عالميًا يرفض الخنوع، ويعلم الإنسان – كل إنسان – أن الدم النقي قد يهزم السيف الصدئ، وأن التضحية في سبيل الحق لا تموت، بل تُزهِرُ في ضمائر الأحرار كلما نادى منادٍ: "يا لثارات الحسين!"

*الآداب في يوم الطفّ العظيم:*
ليس عاشوراء يوم حزنٍ فقط، بل هو مدرسة للتفاعل الوجداني والروحي، وفيه سنّ أهل البيت آدابًا، تجعل من الحزن سلوكًا شعائريًا يُترجم الولاء، ومن أبرزها:

▪️أن يظهر المؤمن هيئة أهل المصائب: مكشوف الذراعين، حاسر الرأس، حزين الهيئة، كمن فقد أحبّته دفعةً واحدة.
▪️أن لا يصوم صيامًا تامًا، بل يُفطِر بعد العصر بشربة ماء، تذكّرًا لعطش الحسين وأطفاله، إذ لم يُسقَ لهم ماءٌ منذ اليوم السابع.
▪️أن يُكثر من البكاء والنوح، فإن الدمع على الحسين، كما ورد، "يطفئ نار جهنم"، و"يُورث الجنة"، ويُعد من أعظم القربات عند الله.

*الخاتمة:*
ما أهونَ الموت إذا كان في سبيل العزّة!
وما أكرمَ النفس حين تختار الشهادة على أن تُساكِن الذلّ!

لقد علّمنا الحسين أن الكرامة لا تُشترى، وأن الموت لأجل المبادئ حياةٌ لا تنقضي، وأن صوت المظلوم قد يهزّ عروش الطغاة، ولو بعد حين.

عاشوراء... ليست فاجعةً يُبكى لها فحسب، بل هي رسالةٌ لا تزال تُقرأ، ورايةٌ لا تزال تُرفع، ونبضٌ في قلب الأمة لا يسكن، حتى يُثأر للحسين تحت راية القائم من آل محمد، صلوات الله وسلامه عليه.

*أعظَمَ الله أجوركم، وجعلنا الله وإياكم من الطالبين بثأر الحسين تحت راية القائم من آل محمد*

أخر الأخبار