• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

الحقيقة القاسية : مطر اليوم لا يمحو جفاف الأمس.. أرقام صادمة خلف مشهد الغيث وموسم يظنه البعض "منقذا"

الحقيقة القاسية : مطر اليوم لا يمحو جفاف الأمس.. أرقام صادمة خلف مشهد الغيث وموسم يظنه البعض "منقذا"

  • 10-12-2025, 21:56
  • تقاير ومقابلات
  • 24 مشاهدة
"Today News": متابعة 

رغم أن موجة الأمطار الأخيرة منحت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في العراق جرعة أوكسجين مؤقتة، ورفعت منسوب التفاؤل لدى كثير من الفلاحين والمسؤولين بإمكانية عبور الموسم الشتوي بأمان، إلا أن هذه الغزارة الموسمية لا تمثل في الواقع سوى جزء محدود من الصورة الكاملة، وكأنها تغطي بطبقة رقيقة من الطين على التشققات العميقة في جسد أزمة مائية وزراعية ممتدة منذ سنوات، إذ لا تغير بضعة أيام ممطرة من حقيقة أن البلد ما زال يعيش تحت ضغط جفاف طويل الأمد، وتراجع مستمر في الخزين المائي، واعتماد مفرط على أنهار تتحكم بمنابعها دول الجوار، داخل منظومة إدارة داخلية تستهلك غالبية الموارد المائية في الزراعة التقليدية منخفضة الكفاءة مقابل عائد إنتاجي متواضع، الأمر الذي يجعل أمطار الموسم أقرب إلى استراحة قصيرة في مسار أزمة بنيوية لا إلى حل جذري لمشكلة تتهدد الزراعة والريف والاقتصاد معا.

في هذا السياق المربك، يبدو المشهد أكثر تعقيدا، فبينما تشير الخطة الزراعية الشتوية الجديدة إلى توسيع المساحات المزروعة اعتمادا على المياه الجوفية والسطحية، وتبعث موجات الأمطار الحالية رسائل أولية بأن الموسم ربما يمر بأقل قدر من الخسائر إذا تعاونت الظروف المناخية، تظل المخاوف قائمة من أن تكون هذه "الهدنة المائية" محدودة زمنيا، لا سيما مع تحذيرات الخبراء من احتمال غياب الزراعة الصيفية أو تقلصها إلى حد كبير إذا لم يتحسن الخزين، ومع بقاء الاتفاقات المبرمة مع تركيا وإيران في معظمها ضمن إطار سياسي وإعلامي لم يترجم بعد إلى التزامات مائية ملموسة يشعر بها الفلاح في جدول السقي لا في بيانات القصور.


موسم شتوي على حافة الأمان

المستشار السابق للجنة الزراعة والمياه في البرلمان، عادل المختار، يلخص جانبا مهما من هذا المشهد المعقد بلغة الأرقام، إذ يؤكد في تصريح خاص لـ"بغداد اليوم" أن الخطة الزراعية الشتوية لهذا الموسم "تتضمن زراعة 3.5 مليون دونم بالاعتماد على المياه الجوفية، ومليون دونم باستخدام المياه السطحية"، مشيرا إلى أن "الوضع المائي تحسن بصورة ملموسة عقب موجة الأمطار الأخيرة التي عززت الإيرادات ودعمت الخزين المتاح"، لكنه في الوقت ذاته يشدد على أن هذا التحسن لا ينبغي أن يغري بالتوسع غير المحسوب، بل يدفع إلى أن "يستثمر الفلاحون الأمطار الحالية في تنفيذ عمليات النثر وزراعة البذور، بما يسمح بالاكتفاء بالرية الأولى من مياه الأمطار، وهو ما يخفف الضغط على الخزين ويسهم في إدارة أفضل للمياه خلال الموسم الشتوي"، بحيث تتحول كل موجة مطر إلى فرصة للتقليل من سحب المياه من السدود لا إلى مناسبة لزيادة الاستهلاك.

ومع أن هذه المؤشرات تبدو للوهلة الأولى مطمئنة نسبيا وتسمح بالحديث عن موسم شتوي "قابل للعبور بأمان"، إلا أن المختار يذكّر بعقدة أساسية في نهاية المسار، موضحا أن "التحدي الأكبر ينتظر القطاع الزراعي في الرية الأخيرة (رية الفطام)، التي تتطلب ما يقارب ملياراً ونصف المليار متر مكعب من المياه خلال شهري نيسان وأيار"، وهي رية حاسمة لا يمكن الاستغناء عنها في مرحلة نضج المحصول، ما يجعله يعرب عن أمله في أن "تتواصل الأمطار الغزيرة خلال تلك الفترة لتأمين هذه الاحتياجات للإنجاز الكامل للخطة الزراعية"، قبل أن يضع خطا واضحا تحت حقيقة أن "الوضع الشتوي يبدو قابلا للعبور بأمان، إلا أن موسم الصيف مرشح لعدم وجود زراعة صيفية بسبب استمرار انخفاض الخزين المائي وضعف كميات المياه المتوفرة حتى الآن"، الأمر الذي يعني أن النجاح في الموسم الشتوي لا يضمن بالضرورة استمرارية الدورة الزراعية خلال العام.


جفاف ممتد وأرقام صادمة خلف مشهد المطر

هذه التحذيرات لا تأتي في فراغ، بل تتقاطع مع سياق أزمة ممتدة منذ سنوات، حيث تتحدث تقارير دولية وأممية عن أن العراق يعيش منذ عام 2020 حالة جفاف تعد من الأسوأ في تاريخه الحديث، مع تراجع تدفقات دجلة والفرات بنسب ملحوظة، وفقدان ما يقارب ثلث الأراضي الزراعية وتحول مساحات واسعة إلى أراض قاحلة مهددة بالتصحر، وظهور تأثيرات مباشرة على الثروة الحيوانية ولا سيما في الجنوب، حيث خسر مربو الجاموس خلال فترة ليست طويلة أكثر من نصف قطعانهم تحت وطأة شح المياه وارتفاع الملوحة وارتفاع كلف الأعلاف، بالتوازي مع تزايد اضطرار الأسر الريفية إلى ترك قراها والهجرة نحو المدن.

في الجنوب تحديدا، تتجسد الكارثة في مشهدين متلازمين يختزلان عمق الأزمة؛ جفاف الأهوار وتراجع مناسيب شط العرب، وما يرافقهما من تدهور حاد في البيئات الطبيعية التي شكلت لعقود طويلة مصدرا للرزق والهوية لسكانها، حيث تتآكل موارد الصيد والرعي شيئا فشيئا، ويجد المزارع نفسه أمام تحدي توفير ماء الشرب قبل التفكير في ري حقله، في وقت تبقى فيه أنماط الري المعتمدة في أغلب مناطق العراق تقليدية ومنخفضة الكفاءة، وتعتمد على قنوات إسمنتية وترابية قديمة تؤدي إلى هدر كبير بفعل التبخر والتسرب، بينما تشير البيانات الرسمية إلى أن غالبية المياه المسحوبة للاستخدام البشري تذهب للزراعة وحدها، رغم مساهمة هذا القطاع المتواضعة في الناتج المحلي الإجمالي، ما يجعل الماء، بوصفه موردا نادرا، يدفع ثمن سوء الإدارة مرتين: مرة في الهدر، ومرة في ضعف العائد.


اتفاق الماء مع تركيا بين الإعلان السياسي وواقع التنفيذ

على خط مواز، يبرز عامل الجوار المائي بوصفه أحد أهم محددات المشهد، إذ تتراكم منذ عقود مشكلات مرتبطة بالسدود والمشاريع المائية الكبرى التي أقامتها تركيا وإيران على مجاري دجلة والفرات وروافدهما، وما يرافقها من اتهامات عراقية مستمرة بتخفيض الحصص المائية باتجاه الحدود، حيث يشار غالبا إلى تأثير مشروع "الكاب" والسدود التركية الجديدة، مثل أليسو وجزرة، على تدفق المياه، وما ينتج عن ذلك من ضغط مباشر على الزراعة في نينوى والأنبار والفرات الأوسط والجنوب، في الوقت الذي تعلن فيه أنقرة وطهران أن مشاريعها تأتي في إطار حقها في التنمية واستخدام الموارد داخل حدودها.

في هذا السياق المعقد، جرى تقديم الاتفاق الإطاري الذي وقعته بغداد مع أنقرة خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عام 2024، على أنه "منعطف تاريخي" في إدارة ملف المياه، بعد أن جرى ربطه بحزمة تعاون اقتصادي واسعة تشمل مشروع طريق التنمية والاستثمارات التركية في العراق، حيث تحدثت البيانات الرسمية عن "شراكة استراتيجية" و"تعاون طويل الأمد" في إدارة الموارد المائية، قبل أن تتسرب لاحقا تفاصيل عن آليات تنفيذية ومشاريع مشتركة وتمويلات، وتظهر في الإعلام تسميات مثل "النفط مقابل الماء" في وصف بعض الصيغ المقترحة التي تربط بين تسهيلات إضافية في ملفات النفط والغاز والترانزيت وبين تحسين الإطلاقات المائية من السدود التركية.

غير أن الخطاب السياسي الكثيف حول "الاتفاق التاريخي" و"الشراكة الاستراتيجية" لم ينعكس حتى الآن، بحسب الوقائع الميدانية وتصريحات رسمية سابقة، على تغيير جذري في وضع النهرين داخل العراق، إذ ما تزال وزارة الموارد المائية تحذر في أكثر من مناسبة من وصول مخزون السدود إلى مستويات متدنية، وما يزال البلد يضطر إلى تقليص أو إلغاء الزراعة الصيفية في عدد من المحافظات من أجل الحفاظ على مياه الشرب والخزين الاستراتيجي، الأمر الذي يطرح أسئلة جوهرية حول مضمون الاتفاق فيما يتعلق بحصة العراق الفعلية من المياه، في ظل غياب أرقام معلنة عن كميات محددة ملزمة لتركيا، وعدم وجود جداول واضحة لقياس الالتزام، ما يدفع مراكز بحثية متخصصة إلى وصف الاتفاق بأنه إطاري وسياسي أكثر منه تقنيا، ويحتاج إلى بروتوكولات تفصيلية لإدارة السدود وجدولة الإطلاقات قبل أن ينعكس على حقل الفلاح.

من زاوية أخرى، يثير ربط ملف المياه بملفات أمنية واقتصادية أخرى مثل محاربة حزب العمال الكردستاني أو مشروع طريق التنمية، مخاوف أوساط عراقية واسعة من أن يتحول المورد المائي إلى ورقة ضغط دائمة في التفاوض مع أنقرة، بحيث تبقى الزراعة والأمن الغذائي في دائرة الابتزاز السياسي المستمر، بدلا من أن يخضعا لتنظيم قانوني وفني مستقر يحمي حقوق الأطراف جميعا، ويجعل إدارة دجلة والفرات شأنا تعاونيا لا ورقة مساومة مؤقتة.


صيف بلا زراعة؟ السيناريو الذي يلوح خلف الغيوم

وإذا كانت مؤشرات هذا الشتاء تميل، استنادا إلى ما تعلنه الجهات المسؤولة، إلى إمكانية "عبور حذر" للموسم الحالي، فإن الصورة تصبح أكثر قتامة كلما اقترب النقاش من الصيف المقبل، إذ يشير مستوى الخزين المائي الحالي، مقارنة بسنوات يصفها المسؤولون بالجيدة، إلى أنه أدنى مما يتطلبه استمرار خطط الزراعة الصيفية، في وقت اضطرت فيه الدولة فعليا خلال صيفي 2023 و2024 إلى تقليص مساحات الذرة والرز والخضراوات، ثم إلغاء الخطة الصيفية شبه كليا في 2025 باستثناء بساتين النخيل وبعض المحاصيل الدائمة ذات الأولوية المرتبطة بالهوية الغذائية والاقتصادية، وذلك بهدف توفير مياه الشرب وحماية ما تبقى من الخزين الاستراتيجي، ما يجعل سيناريو "صيف بلا زراعة" في المواسم المقبلة امتدادا لمنحى قائم وليس توقعا نظريا.

تقديرات المؤسسات المالية والمنظمات الزراعية الدولية تحذر هي الأخرى من أن استمرار العمل بالأنماط الحالية، التي يمكن وصفها بسيناريو "العمل كالمعتاد"، مع بقاء طرق الري القديمة من دون تحديث، وغياب تسعير حقيقي للمياه، وتوسع زراعة المحاصيل الأكثر استهلاكا للماء على حساب محاصيل أكثر كفاءة، سيؤدي إلى اتساع الفجوة بين العرض والطلب المائي خلال العقدين المقبلين، بما يعني المزيد من تقليص الخطط الزراعية الصيفية والشتوية معا، وارتفاعا مضطردا في فاتورة الاستيراد الغذائي، وتزايد تبعية العراق للأسواق الخارجية لتأمين الحبوب والخضراوات الأساسية.


بين مطر اليوم وسياسة الغد.. هل من فرصة لتغيير المسار؟

ورغم أن حجم التحدي يبدو كبيرا ومتجذرا، إلا أن التقارير الدولية ما زالت تتحدث عن وجود هامش لفرصة "إنقاذ متدرج" إذا ما تحولت أزمة المياه في العراق من ملف موسمي يثار عند كل موجة جفاف إلى مشروع وطني طويل الأمد يعاد من خلاله بناء علاقة الدولة مع مواردها المائية، عبر تحسين كفاءة استخدام المياه في الزراعة بنسبة معقولة من خلال تبني الري بالرش والتنقيط، واستبدال جزء من المياه العذبة بالمياه المعالجة في بعض الأنشطة الزراعية والصناعية، وإعادة النظر في خارطة المحاصيل لصالح أصناف أقل استهلاكا للمياه وأكثر ملاءمة للبيئة الحارة والجافة، بما يسمح بتقليل الهدر وتحسين العائد في آن واحد.

وعلى المستوى السياسي، يبقى جوهر الاختبار في قدرة بغداد على تحويل الاتفاق مع تركيا من "بيان نوايا" إلى منظومة ملزمة لإدارة مشتركة للسدود وتبادل البيانات وتحديد حصص واضحة وشفافة، مع بناء كتلة تفاوضية أوسع تشمل سوريا وربما إيران، تضع ملف دجلة والفرات ضمن مقاربة حوضية كاملة قائمة على تقاسم المنفعة وتقليل الضرر، بدلا من الاكتفاء بصفقات ثنائية متفرقة تربط الماء بملفات أخرى، وتترك المزارع في نهاية المطاف أمام جدول سقي لا يقرأ البيانات السياسية بل يقيس ارتفاع الماء في القناة.

أما داخليا، فلا يمكن فصل ملف المياه عن بنية الاقتصاد الريعي والفساد وضعف الإدارة؛ فالتوسع في حفر الآبار من دون ضوابط صارمة، واستمرار التجاوزات على الأنهار والقنوات، وغياب الجدية في تطبيق خطط مكافحة التصحر وزراعة الأحزمة الخضراء حول المدن والأراضي الزراعية، كلها تجعل أي تحسن موسمي في الأمطار مجرد "استراحة قصيرة" في مسار جفاف طويل، بدلا من أن يكون نقطة انطلاق لإعادة هيكلة السياسات المائية والزراعية.

في النهاية، يتوقف الكثير على الطريقة التي ستتعامل بها الدولة مع هذا الملف المعقد: هل سيبقى الجفاف عنوانا لأزمة طارئة تدار بقرارات آنية وردود فعل على مواسم مطيرة أو جافة، أم يمكن أن يتحول إلى مدخل لإعادة بناء علاقة جديدة مع الأرض والماء والإنتاج، تجعل الفلاح الذي ينتظر "رية الفطام" في نيسان وأيار شريكا في رؤية طويلة الأمد، لا مجرد متلق لقرارات مفاجئة؟ فذلك الفلاح لا يعنيه كثيرا عدد الوفود والاتفاقات والبيانات المشتركة، بقدر ما يعنيه وصول الماء إلى حقله في الوقت المناسب، ليبقى في أرضه، ويستمر القمح في نموه، ولا تتحول القرى إلى محطات نزوح جديدة على حواف المدن تبحث عن ماء وفرصة عمل بدل أن تظل مصدرا للغذاء والاستقرار.

أخر الأخبار