أوهام النفوذ الإقليمي .. لماذا تمدون اصابعكم في دول أخرى؟!
"Today News": متابعة
????التوسّع الإقليمي في الشرق الأوسط: الدوافع، الأدوات، والتداعيات????
شهد الشرق الأوسط خلال العقد الأخير اندفاع عدد من الدول الإقليمية، وعلى رأسها السعودية والإمارات وتركيا ، نحو سياسات توسّعية خارج حدودها الوطنية، بذريعة حماية الأمن القومي أو ملء فراغ إقليمي. إلا أن هذه السياسات، في جوهرها، أعادت إنتاج منطق خطير يقوم على التدخل في شؤون الدول الأخرى، واستغلال اوضاعها وتحويل أزماتها الداخلية إلى ساحات صراع إقليمي مفتوح.
وقد برز هذا التوجّه بوضوح في حالات متعددة، مثل التدخل الإماراتي في اليمن والسودان، والدور التركي في سوريا وليبيا، و التدخلات السعودية (عسكريا وسياسيا) في البحرين واليمن وسوريا ولبنان، وغيرها من الأمثلة.
????ماهي الدوافع؟
تتعدد دوافع هذه السياسات، ويمكن تلخيصها في عدة عوامل رئيسية:
1. الهاجس الأمني: تسوّغ بعض الدول تدخلها الخارجي باعتباره دفاعاً استباقياً عن أمنها القومي، ومنعاً لانتقال الفوضى أو نفوذ خصوم إقليميين إلى حدودها.
2. الصراع على الزعامة الإقليمية: تسعى دول معينة إلى تعزيز موقعها كقوة إقليمية مؤثرة، خاصة في ظل تراجع أو انكفاء أدوار دولية كبرى في بعض مراحل الصراع.
3. الاعتبارات الأيديولوجية والسياسية: دعم أنظمة أو جماعات تشترك في توجهات سياسية أو أيديولوجية متقاربة.
4. المصالح الاقتصادية والجيوسياسية: مثل السيطرة على الموانئ، طرق التجارة، مصادر الطاقة، أو مناطق ذات أهمية استراتيجية.
????نفوذبالقوةلابالتنمية
في اليمن، تحوّل التدخل العسكري السعودي إلى حرب طويلة ومكلفة أنهكت الجميع دون حسم وزادت اليمن تخلفا وأضرت بحاضره ومستقبله وكلفت الميزانيةالسعودية عشرات المليارات التي كان يمكن إنفاقها على إعمار اليمن وإغاثة الشعب الفلسطيني المضطهد.
وفي سوريا، تنافست تركيا و السعودية مع قوى إقليمية ودولية أخرى (إيران وروسيا) على النفوذ، ما أطال أمد النزاع وعمّق الانقسام ودمر الشام وتكاد تتحول البلد الى دويلات متصارعة وبين يوم وآخر تقع مجزرة بين الناس الأبرياء.
وفي البحرين ولبنان والسودان، جرى توظيف أدوات سياسية وأمنية واقتصادية للتأثير في التوازنات الداخلية وحصلت ميليشيات مأجورة على دعم مالي وتسليحي من الخارج.
????النتيجة المشتركة:
دول منهكة،و شعوب مدمّرة، ونفوذ هشّ لا يستند إلى شرعية ولا استقرار. الدول الطامعة في النفوذ تنفق أموالها وتهدر إمكاناتها بلا جدوى.ولذلك شهدنا عدم ضمان العائد الاستراتيجي
لكثير من هذه التدخلات،إذ لم تحقق استقراراً ولا نفوذاً دائماً، بل أنتجت بيئات معادية أو غير مستقرة، وبلدان ممزقة، ما يعني أن الكلفة غالباً تفوق المكاسب.
وكان ينبغي استثمار المليارات لدى الدول الغنية لتحسين واقع الأمة الإسلامية و تطوير مؤسساتها الجامعية و الصحية و التكنولوجية والرفاهية بدلا من إنعاش سوق تهريب الأسلحة الخفيفة والمتوسطة و تشجيع أهل السودان وسوريا واليمن وليبيا ولبنان على التقاتل فيما بينهم وضرب أسس الدولة المركزية وإحياء النعرات الإنفصالية وتمزيق هذه الدول إربا إربا.
????كلفة التوسّع: المال والدم والسمعة
لقد أنفقت هذه الدول مليارات الدولارات خارج حدودها، و خسرت جنوداً وضباطاً، وورّطت نفسها في ملفات معقدة يصعب الخروج منها دون خسائر إضافية. وفي المقابل، لم يتحقق استقرار إقليمي، ولا نفوذ دائم، ولا حتى رضا شعوب الدول المتدخلة نفسها التي باتت تتساءل عن جدوى هذه المغامرات.
????درس صدام حسين: الخيبة
المفارقة اللافتة أن هذا السلوك يعيد إلى الأذهان نهج صدام حسين، الذي روّج لنفسه يوماً بوصفه “الزعيم الأوحد” و”حامي البوابة الشرقية”، فاندفع إلى حروب خارجية و تدخلات إقليمية باسم المجد القومي والردع الاستراتيجي.
لقدكانت الحصيلة كارثية على هذه الدولة الغنية ،إذ تم:
????تدمير الاقتصاد العراقي بعد استنزافه في الحروب.
????تحطيم الجيش العراقي الذي كان يوصف بأنه من أقوى جيوش المنطقة.
????إفقار الشعب العراقي وإدخاله في دوامة حصار وحروب وانقسامات و خوض صراعات أحرقت الأخضر واليابس.
????وفي النهاية،آل الأمر الى سقوط الدولة نفسها لا الزعيم وحده.
لم يكن صدام ضحية مؤامرة بقدر ما كان أسير وهم توسيع النفوذ بالقوة وجنون العظمة، عبر شراء ذمم إعلاميين وسياسيين ذيول، وتأسيس فروع لحزبه في بلدان أخرى ومن خلال تشكيل العصابات وعمليات الاغتيالات، لبلوغ الأهداف التوسعية، وتلميع صورته ، وهو الوهم ذاته الذي يطلّ اليوم بأشكال جديدة وأسماء مختلفة.
????فرق في الشكل وتشابه في الجوهر
صحيح أن الدول الثرية اليوم لا ترفع خطاب “الزعيم الأوحد”، لكنها تمارس سياسات تقوم على:
????تصدير الأزمات بدل احتوائها،
????عسكرة السياسة بدل الدبلوماسية،
????واعتبار النفوذ الإقليمي بديلاً عن التنمية الداخلية.
و هو منطق ثبت تاريخياً أنه يؤدي إلى الاستنزاف لا الهيمنة، وإلى الفوضى لا القيادة.
????النفوذ الحقيقي لا يُشترى بالسلاح
إن النفوذ الإقليمي المستدام لا يُبنى بالقواعد العسكرية ولا بالميليشيات المأجورة ولا بالشيكات المفتوحة لأمراءالحرب ورؤساءالتحرير، بل عبر:
????اقتصاد قوي ومتنوع،
????شرعية سياسية داخلية،
????احترام سيادة الدول،
????ولعب دور وساطة و مساعي حميدة لمصالحة الفرقاء وطرح حلول بناءة لا إشعال صراعات هدامة.
????مراجعة قبل فوات الأوان
إن استمرار هذه الدول الطامعةوالثرية في سياسات التدخل وحشر انفها في دول أخرى ومد أصابعها لبسط النفوذ عبر انفاق المليارات لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج مآسي الماضي بصيغ جديدة. وتجربة العراق في عهد صدام حسين تقف شاهداً صارخاً على أن التوسع بلا حكمة لا يصنع مجداً، بل يراكم الخراب.
ان التاريخ في هذه المنطقة قاسٍ مع من لا يتعلّم منه، ولا يمنح فرصاً غير محدودة. والمراجعة اليوم ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية قبل أن تتحول أوهام النفوذ إلى كوارث لا يمكن احتواؤها.
????كلمة أخيرة:
إن ظاهرة التوسّع الإقليمي في الشرق الأوسط تعكس أزمة بنيوية في النظام الإقليمي العربي و الإقليمي عموماً، حيث يغيب التعاون الجماعي وتحضر الحسابات الضيقة. وبعد عقد من التجارب المكلفة، بات واضحاً أن سياسات بسط النفوذ بالقوة وغرزالاصابع في بلدان اخرى لم تجلب الاستقرار، بل ساهمت في تعميق الفوضى واستنزاف الجميع، و إحراق أصابع الطامحين في بسط النفوذ.
ولذلك آن الأوان لمراجعة جادة تعيد الاعتبار لمنطق الدولة الوطنية، والحلول السياسية، والتنمية كطريق حقيقي للأمن والنفوذ.كسب الشعوب يتسنى بإعمار الدول الغنية للفقيرة وليس بتشكيل الميليشيات وتمزيق الدول وتفتيت البلدان عبر إنفاق المليارات، هدرا.
{.. فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ.. ﴿الأنفال٣٦﴾
د.رعدهادي جبارة
باحث في العلاقات الدولية ودبلوماسي سابق
اليوم, 16:57 أوهام النفوذ الإقليمي .. لماذا تمدون اصابعكم في دول أخرى؟!
د.رعدهادي جبارةاليوم, 13:44 نحو تفعيل رأس المال الاجتماعي في العراق
إبراهيم العباديأمس, 14:00 "الشهر" في القرآن .. دراسة في الخصوصية الدلالية
د.رعدهادي جبارة26-12-2025, 19:40 صعود الصناعات العسكرية الصينية وإعادة تشكيل ميزان القوة العالمي
د.رعدهادي جبارة