صعود الصناعات العسكرية الصينية وإعادة تشكيل ميزان القوة العالمي
"Today News": متابعة
????دراسة تحليلية في التحول البنيوي و التطور العسكري الصيني وتداعياته على الشرق الأوسط????
مدخل:
شهدت الصين خلال العقدين الأخيرين تحولًا جذريًا في موقعها داخل منظومة القوة العسكرية العالمية. فبعد أن كانت أحد أكبر مستوردي السلاح في العالم، باتت اليوم تمتلك قاعدة صناعية–عسكرية متكاملة، قادرة على تلبية معظم احتياجاتها الدفاعية محليًا، و تصدير منظومات متقدمة إلى الخارج. هذا التحول لا يعكس تطورًا تقنيًا فحسب، بل يعبر عن رؤية استراتيجية صينية تهدف إلى كسر الاحتكار الغربي لصناعة السلاح، وتقليص قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على استخدام القيود العسكرية أداةً للضغط السياسي على دول العالم.
تبحث هذه الدراسة في مظاهر الصعود العسكري الصيني، من التوسع النووي، إلى التطور الجوي والبحري، وصولًا إلى صادرات السلاح، ثم تناقش دلالات هذا التحول على دول الشرق الأوسط، مع التركيز على تجربة إيران بوصفها حالة دراسية أولية في التوجه نحو السلاح الصيني “غير المشروط”.
????أولًا:التوسع النووي الصيني وتحول عقيدة الردع
يشير تقرير لوزارة الدفاع الأميركية إلى أن الصين نشرت على الأرجح قرابة 100 صاروخ باليستي عابر للقارات في ثلاثة مواقع إطلاق حديثة، يُعتقد أنها تضم صواريخ من طراز DF-31 العاملة بالوقود الصلب. ويُعد هذا التطور مؤشرًا بالغ الدلالة على تسارع وتيرة التحديث النووي الصيني، الذي يجري بوتيرة أسرع من أي قوة نووية أخرى في العالم.
وبحسب التقرير ذاته، بلغ مخزون الصين من الرؤوس النووية نحو 600 رأس عام 2024، مع توقعات بتجاوزه حاجز 1000 رأس بحلول عام 2030. ورغم تأكيد بكين التزامها بسياسة “عدم المبادرة باستخدام السلاح النووي”، فإن هذا التوسع الكمي و النوعي يشير إلى انتقال الصين من ردع نووي محدود إلى ^ردع أوسع وأكثر تنوعًا^.
تزداد خطورة هذا التحول في ظل اقتراب انتهاء العمل بمعاهدة “نيو ستارت” آخر اتفاقية كبرى للحد من التسلح النووي بين الولايات المتحدة و روسيا، ما يفتح الباب أمام سباق تسلح نووي ثلاثي الأطراف، ويقلّص هامش الثقة والاستقرار في النظام الدولي.
????ثانيًا: القاعدةالصناعية-العسكرية:قلب التحول الصيني
لا يمكن فهم الصعود العسكري الصيني بمعزل عن إعادة بناء القاعدة الصناعية–العسكرية. فمنذ منتصف العقد الماضي، وضعت القيادة الصينية الاكتفاء الذاتي العسكري في صلب رؤيتها للأمن القومي، باعتباره شرطًا أساسيًا للاستقلال السياسي و الاستراتيجي.
أُعيدت هيكلة الشركات الدفاعية المملوكة للدولة، و ضُخّت استثمارات هائلة في البحث العلمي، و جرى فتح المجال أمام الجامعات والشركات الخاصة للمشاركة في تلبية الاحتياجات العسكرية. ونتيجة لذلك، تراجعت واردات الصين من السلاح بشكل حاد، وخرجت من قائمة أكبر عشرة مستوردين عالميًا، بعدما كانت تتصدرها قبل عقدين.
هذا التحول البنيوي مكّن بكين من إنتاج معظم ما تحتاجه من منظومات عسكرية، حتى وإن استمرت في استخدام بعض المكونات الأجنبية لأسباب تتعلق بالكلفة أو الجودة، وهو ما يعكس براغماتية صناعية لا أيديولوجية.
????ثالثًا:التفوق الجوي؛كسر عقدةالمحركات
شكّلت محركات الطائرات المقاتلة لعقود طويلة إحدى أبرز نقاط الضعف في القدرات العسكرية الصينية. إلا أن إنشاء شركة محركات الطيران الصينية عام 2016 مثّل نقطة تحول مفصلية، إذ جرى تسريع برامج التطوير عبر التعاون مع الجامعات و استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وخلال أقل من عقد، دخلت مقاتلات شبحية مثل J-20 وJ-35 الخدمة بمحركات محلية الصنع، ما منح الصين قدرًا أكبر من الاستقلالية في مجال بالغ الحساسية. ورغم أن بعض الخبراء يرون أن جودة هذه المحركات لا تزال دون المستوى الأميركي، فإن الاتجاه العام واضح: الصين تُضيّق الفجوة بسرعة، وتكسر احتكارًا تقنيًا كان يُعد عصيًا على الاختراق.
????رابعًا: التفوق البحري؛ الكم بوصفه قوة استراتيجية
في المجال البحري، تتفوق الصين على الولايات المتحدة من حيث سرعة الإنتاج و الكلفة. فبين عامي 2015 و2024، أطلقت البحرية الصينية 152 سفينة حربية، مقابل 70 فقط للبحرية الأميركية. ويعكس هذا الفارق نموذجًا صناعيًا مختلفًا، يقوم على القدرة على التعويض السريع وبناء قوة بحرية كبيرة العدد، بدل الاعتماد على منصات قليلة فائقة الكلفة.
ويبرز في هذا السياق تدشين حاملة الطائرات “فوجيان”، أول حاملة صينية مصممة ومبنية محليًا بالكامل، ومزودة بأنظمة إطلاق كهرومغناطيسية متقدمة، ما يضعها في مصاف الحاملات الأميركية من حيث المفهوم، وإن اختلفت الخبرة التشغيلية.
????خامسًا:الصواريخ و الردع البحري
تُعد الصواريخ الباليستية، ولا سيما الفرط صوتية، حجر الزاوية في الاستراتيجية الصينية لمواجهة التفوق الأميركي. فصواريخ مثل DF-21D وYJ-21 صُممت خصيصًا لتهديد حاملات الطائرات، و تقويض قدرة الولايات المتحدة على العمل بحرية في غرب المحيط الهادئ.
وتعتمد بكين هنا على ما يُعرف باستراتيجية “حرمان الوصول ومنع المناورة”، وهي استراتيجية لا تهدف إلى السيطرة العالمية، بل إلى جعل التدخل العسكري المعادي مكلفًا و غير مضمون النتائج.
????سادسًا: صادرات السلاح الصينية؛من التجارة إلى النفوذ
باتت الصين اليوم رابع أكبر مصدّر للسلاح في العالم، مقدّمةً نموذجًا مختلفًا جذريًا عن النموذج الغربي. فالسلاح الصيني يُباع، في الغالب، دون شروط سياسية صارمة، ودون قيود استخدام أو تحديث، وبمرونة أكبر في التسعير والدفع.
هذا النموذج يمنح الدول المستوردة هامشًا أوسع من السيادة، حتى وإن لم يكن السلاح الصيني متفوقًا دائمًا من حيث التكنولوجيا المطلقة. فالميزة هنا ليست “الأفضل”، بل “الأكثر استقلالًا”.
????سابعًا:إيران كنموذج تطبيقي
يمثل توجّه إيران نحو مقاتلة J-10C الصينية مثالًا واضحًا على التحول في خيارات التسلح. فبعد سنوات من التعويل على صفقات روسية واجهت تأخيرات وتعقيدات، برز السلاح الصيني كبديل عملي، خاصة بعد الأداء القتالي المنسوب لـJ-10C في المواجهات الجوية بين الهند وباكستان.
اللافت أن بكين نفسها حذّرت طهران من الاعتماد على المقاتلة وحدها، مؤكدة ضرورة دمجها مع منظومات إنذار مبكر وإدارة معركة، وهو ما يعكس فهمًا ناضجًا للسلاح بوصفه منظومة متكاملة، لا منصة معزولة.
????ثامنًا:دلالات الصعود الصيني على الشرق الأوسط
يفتح السلاح الصيني أمام دول الشرق الأوسط ثلاث فرص استراتيجية رئيسية:
1.تقليص الارتهان السياسي للموردين الغربيين.
2.تعزيز القدرة التفاوضية في علاقات التسلح الدولية.
3.الحصول على منظومات “كافية” دفاعيًا بكلفة أقل و شروط أخف.
ولا يعني ذلك القطيعة مع السلاح الغربي، بل تبنّي سياسة تنويع المصادر وبناء توازن في علاقات التسلح، بما يعزز هامش القرار الوطني.
????الخاتمة:
لا تسعى الصين إلى الهيمنة على سوق السلاح بقدر ما تسعى إلى كسر احتكاره. وفي عالم يتجه نحو التعددية القطبية، يصبح السلاح أداة سيادة بقدر ما هو أداة ردع. إن إدراك دول الشرق الأوسط لهذا التحول، والتعامل معه ببراغماتية استراتيجية، قد يشكل أحد مفاتيح استعادة الاستقلال في القرار الدفاعي خلال العقود المقبلة.
????للمزيد راجع:
1.وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)
Military and Security Developments Involving the People’s Republic of China
(التقرير السنوي حول القدرات العسكرية الصينية).
2.معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)
SIPRI Yearbook: Armaments, Disarmament and International Security
(بيانات الإنفاق العسكري وصادرات السلاح العالمية)
3.وول ستريت جورنل
How China Built a Military-Industrial Base to Rival the West
(تحليل معمّق لتطور القاعدة الصناعية –العسكرية الصينية)
4.رويترز؛تقارير و تحقيقات حول التوسع النووي الصيني و تحديث الترسانة الاستراتيجية
(مصدر إخباري دولي معتمد واسع الاستخدام في الدراسات)
5.معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية (IISS)
The Military Balance
(تقديرات مقارنة للقدرات العسكرية العالمية)
د.رعدهادي جبارة
باحث في العلاقات الدولية ودبلوماسي سابق
اليوم, 19:40 صعود الصناعات العسكرية الصينية وإعادة تشكيل ميزان القوة العالمي
د.رعدهادي جبارة24-12-2025, 21:24 مشروع الإصلاح الواعي في زمن الحصار للإمام علي الهادي (ع)
د. وليد الحلي23-12-2025, 13:08 الصين والملف الإيراني .. توازن إقليمي واختبار دولي
د.رعدهادي جبارة23-12-2025, 10:25 في رحاب الامام باقر علم النبيّين ورائد الحوار والإصلاح
د. وليد الحلي