استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.. كيف قرأناها؟
"Today News": بغداد
رغم أن اسم العراق لم يَرِد في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، وأن عموم منطقة الشرق الأوسط لم تأخذ أكثر من صفحتين من أصل 33 صفحة، فإن هذه الوثيقة لم تُقرأ كما ينبغي، ولم تحظَ باهتمام عراقي كبير. فالعراقيون مشغولون بمعضلتهم السياسية الداخلية، وتركيزهم الأساس منصب على المواقع الأولى في هرم السلطة. لم تستفزهم مشاريع الآخرين وخططهم وبرامجهم؛ لأن تفكيرهم السياسي لا يتوجه إلى قراءة البرامج والخطط، ولا ينشغلون بفهم استراتيجيات الآخرين بعيدة المدى وانعكاساتها وتطبيقاتها وأدواتها.
رغم ذلك، تعكس الوثيقة الأمريكية تطلعات الرئيس الأمريكي وطاقمه، وهي تطلعات تشمل تغييرًا وتجديدًا وإعادة قراءة لأهداف الأمن القومي ومسرح عملياته ومسارات تحقيقها. كسرت هذه القراءة الجديدة المألوف والمتوقع، وجعلت المراقبين يتحدثون عن نمط إدراكي جديد لنوع التحديات وطبيعة الأهداف التي تنوي إدارة "ترامب" متابعتها بقوة، لتضمن بقاء أمريكا القوة الأولى في العالم – القوة التي تتفوق تكنولوجيًا واقتصاديًا وعسكريًا على أقرب منافسيها، وهي الصين – كي تبقى ماسكة بزمام النظام الدولي، مانعة إياه من التحول إلى نظام ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب.
الشيء المثير في تلقينا لمضمون الاستراتيجية، أننا أرحنا أنفسنا من التفكير الجاد والمعمق بمعطياتها، وتركنا هذا التفكير لجيراننا؛ ليفكروا هم فيما يمكن استنتاجه، وليعملوا على ما يمكن التعاون فيه مع أمريكا ذاتها، كي لا يخوضوا معارك خاسرة، وحتى يجدوا فرصًا وملاذات يحققون فيها أمنهم ومصالحهم. هنا يكمن الفرق بين نمطين إدراكيين: فإيران مثلاً اهتمت كثيرًا بالوثيقة، واجتهد خبراؤها ومتخصصوها في قراءة ما بين السطور؛ لفهمها والتخطيط للاستجابة للفرص المتاحة والتعامل مع التهديدات المعلنة.
حجم الاهتمام الإيراني مفهوم، بسبب ما آلت إليه حرب الاثني عشر شهراً بين إيران وإسرائيل، وما قامت به أمريكا في استكمال أهداف الهجوم الإسرائيلي، وما ينتظره "ترامب" من الإيرانيين كي يعقد معهم "الصفقة المنتظرة". لكن تمنيات "ترامب" ليست قريبة التحقق، كما يبدو من سياق الجدل والنقاش في الداخل الإيراني.
النموذج الآخر للتعاطي الواسع مع الوثيقة الأمريكية كان خليجياً، إذ اهتمت الصحافة ومراكز الدراسات والباحثون ووسائل الإعلام باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، واعتبروها فرصة كبيرة للاستثمار في المبدأ "الترامبي": بناء السلام عبر الشراكات الاقتصادية، وتحقيق الأمن عن طريق الاستثمار المشترك للموارد، واستبدال الحروب بالمفاوضات وفق مبدأ "رابح-رابح". السياسي الخليجي عرف كيف "يشتري" أمنه وازدهار بلاده، ويوجه رسائل بليغة فهمها "ترامب" بسرعة: نحن جاهزون للعمل المشترك بما يحقق المصلحة المتبادلة: شرق أوسط بلا أزمات ولا حروب، واستثمار كبير في قطاعات التكنولوجيا، وعلاقات محسوبة مع الصين، وإدارة ناجحة لملفات يرغب "ترامب" في رؤيتها تخدم هدفه الأسمى: جعل أمريكا الرقم الأول في العالم.
في المقابل، جاء التعاطي العراقي مع الاستراتيجية الأمريكية متسرعًا وخفيفًا وعابرًا. فمادام العراق لم يُذكر بصراحة، ولم تتوقف الاستراتيجية عند هذا البلد "العنيد الصعب" – إذ أمريكا بعيدة عن أن تنشغل بنا، بل هي مشغولة عنا – مال الاتجاه الإدراكي السائد إلى إنكار قضية اسمها "موقع العراق في الاستراتيجية الأمريكية الشرق أوسطية". صحيح أن العراق جاء ثانوياً وبلا تسمية صريحة، لكن الإشارة كانت واضحة، تترجمها تصريحات وزير الخارجية ومساعديه ونوابه والقائم بالأعمال الأمريكي في بغداد "جوشوا هاريس". فهؤلاء يكررون دائماً أن أمريكا تريد العراق خارج النفوذ الإيراني، وتريده قادراً على احتكار السلاح بلا منازع من أي فصيل أو قوة توازي مؤسسات الدولة.
الوثيقة الأمريكية تقول إن أمريكا ستمنع أي قوة معادية من السيطرة على الممرات البحرية، وتعمل بحرية بما يهدد مصالحها ويضر بأمن ربيبتها إسرائيل. الترجمة العملية لذلك: منع القوى المتحالفة مع إيران من التحرك بحرية، واستثمار صعود ممثليها إلى البرلمان لإضفاء الشرعية على نشاطاتها والتغلغل في مؤسسات الدولة بما يضمن توجيهها لصالح المشروع "الفصائلي-الإيراني" – كما تقول واشنطن. الإشارة الأمريكية جاءت سريعة لبغداد: لن نتعامل مع وزارة أو موقع حكومي يديره منضوون تحت عنوان "فصائل عراقية" عددها ستة باستثناء "بدر". هذا التحديد الأمريكي يتماهى مع مضمون الاستراتيجية الأمريكية التي عبرت عن ذاتها بكونها خريطة طريق للسياسة الخارجية في عهد "ترامب".
رغم أهمية الوثيقة ومدركاتها وترجمتها العملية، فإنها لم تأخذ حيزاً في اهتمامات العراقيين. ربما لأنهم لا يريدون التفكير بقضايا فوق طاقتهم على التصور والإدراك، وهم معروفون بالتعويل على عاملي الزمن والمتغيرات الجيوسياسية، وانتظار ما سيحدث.
النتيجة التي نخلص إليها: أن من كان موضوعاً للصراع، كإيران، وجد نفسه مهتماً بالاستراتيجية الأمريكية بشكل مكثف وجاد. ومن كان معنياً بها على أساس فرصة للشراكة، كالخليجيين، اهتم اهتماماً متوسطاً. أما من كان ساحة صراع في المنطقة، فإنه لم يكلف نفسه التعمق في القراءة والتحليل والتحوط وبناء السيناريوهات، وبقيت اهتماماته منخفضة وضعيفة، كما هو حالنا في العراق.
خلاصة ذلك: الدولة التي تكون موضوعاً للصراع، فإن اهتمامها بالنصوص التأسيسية يكون قوياً وكبيراً. والدول التي تبحث عن الشراكات، فإنها تنتقي وتقرأ بما يحقق أغراضها ومصالحها. والدولة التي لا تزال ساحة صراع، فإنها تعرض عن القراءة الواسعة، وتهتم بذاتها الداخلية، ما يفوِّت عليها فرص فهم العالم المحيط بها والمؤثر في سياساتها.
على الأرجح، إن طاقة المتابعة والقراءة والفهم والتصرف المدروس ما تزال بعيدة عنا؛ لأننا لا نقرأ الأفق البعيد، ولا نريد التركيز عليه. اهتمامنا الوحيد في القراءات قصيرة الأمد، السريعة النتائج والاستخلاصات؛ لأنها توفر لنا "مناعة أيديولوجية". أوضح مثال على ذلك: نحن وسوريا ما بعد الأسد. العراق أضاع فرصاً كبيرة للبناء والنمو ومواجهة التحديات بسبب القراءات المتعجلة والعاطفية، فيما نجحت سوريا بفعل الدعم العربي والتركي في الحصول على امتيازات من أمريكا، وصارت دوائر أمريكية فاعلة تدفع نحو استبدال سوريا بالعراق كركيزة للاستقرار في المنطقة ونموذجا لاعادة البناء .
18-12-2025, 23:13 إدارة ترمب تغير قواعد الحرب في العراق .. قوة ناعمة لكتابة فصل جديد
اليوم, 13:54 استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.. كيف قرأناها؟
إبراهيم العبادي18-12-2025, 21:06 عندما يُهان القرآن ويغيب صوت الأزهر!!
د.رعدهادي جبارة17-12-2025, 11:12 إهانة القرآن انحدار أخلاقي فما موقف البيت الأبيض؟
د.رعدهادي جبارة15-12-2025, 14:26 إيران ولبنان… العلاقات التي لا تُلغِيها أزمة عابرة
د.رعدهادي جبارة