يمثل تصويت الكونغرس الأميركي على إلغاء تفويضي استخدام القوة العسكرية ضد العراق لعامي 1991 و2002 تحولاً لافتاً في مسار العلاقة بين بغداد وواشنطن، بعد أكثر من ثلاثة عقود ارتبط فيها اسم العراق قانونياً بحالة حرب مفتوحة.
القرار، الذي أُدرج ضمن مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2026، أعاد طرح تساؤلات جوهرية بشأن دلالاته السياسية والأمنية، وحدود تأثيره الفعلي على سيادة العراق واستقراره الداخلي وعلاقاته الخارجية.
وبينما ترى الحكومة العراقية في الخطوة تتويجاً لمسار طويل من استعادة السيادة وإنهاء إرث الحروب، يذهب خبراء ومحللون إلى أن الإلغاء لا يعني انسحاباً كاملاً للنفوذ الأميركي، بقدر ما يعكس انتقالاً من منطق التدخل العسكري المباشر إلى أدوات أخرى، أمنية واقتصادية، قد تكون أكثر تأثيراً في المرحلة المقبلة.
تحول سيادي
الناطق باسم الحكومة العراقية باسم العوادي اكتفى، في حديث له ، بالإشارة إلى بيان وزارة الخارجية العراقية بوصفه الموقف الرسمي الواضح لبغداد حيال القرار الأميركي.
وكانت وزارة الخارجية قد وصفت، أمس الأربعاء 17 كانون الأول/ديسمبر 2025، تصويت الكونغرس الأميركي على إلغاء التفويضين بأنه "تاريخي"، معتبرة إياه نقطة تحول جوهرية في تغيير الطابع القانوني للعلاقة بين البلدين.
وأكدت الوزارة في بيان لها ، أن الإلغاء يؤسس لشكل جديد من العلاقات قائم على احترام سيادة العراق، وإنهاء إرث الحرب، وتعزيز إطار الشراكة الاستراتيجية، بما يبعث برسالة إيجابية إلى المجتمع الدولي بأن العراق بات بيئة آمنة وجاذبة للاستثمار.
وشددت الخارجية العراقية على أن هذا القرار لا يقوض جهود مكافحة الإرهاب، موضحة أن تفويض عام 2001 الخاص بمحاربة تنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية المرتبطة به ما زال نافذاً، مع تأكيد التزام بغداد بتطوير العلاقات الثنائية بما يخدم مصالح البلدين واستقرار المنطقة.
من الصراع للشراكة
في هذا الصدد، رأى مستشار رئيس الوزراء للعلاقات الخارجية فرهاد علاء الدين، أن قرار إلغاء التفويض باستخدام القوة ضد العراق يمثل خطوة سياسية وقانونية مهمة، تعكس حقيقة أن العراق اليوم دولة ذات سيادة كاملة، وأن مرحلة الحرب باتت من الماضي.
وأوضح علاء الدين، أن القرار يؤكد تحول العلاقة مع واشنطن من منطق الصراع إلى منطق الشراكة والاحترام المتبادل، لافتاً إلى أن انعكاساته الأمنية تتمثل في تعزيز مبدأ السيادة ودعم الاستقرار السياسي وتكريس مسار العلاقة الطبيعية بين البلدين.
رسالة طمأنة
من جهته، اعتبر الخبير الأمني سرمد البياتي، أن للقرار أهمية مزدوجة، إذ يحمل رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي وإلى الداخل العراقي بأن البلاد لم تعد مهددة بخطر عسكري وشيك.
وقال البياتي، إن أهمية القرار تكمن في التأكيد على أن العراق بات آمناً ولا يحتاج إلى تدخل عسكري خارجي كما كان يحدث في السنوات السابقة، مشيراً إلى أن الإلغاء يمنح الحكومة العراقية زخماً وقوة في إدارة شؤون الدولة دون ضغوط مرتبطة باحتمالات استخدام القوة العسكرية.
وبين أن القرار يسهم في تعزيز الاستقرار الداخلي والخارجي، وينسف أي تصورات أو سيناريوهات محتملة لتدخلات عسكرية من دول أخرى بحجة الوضع الأمني في العراق.
استقلالية عسكرية
وفي السياق الأمني ذاته، أكد مصدر أمني رفيع المستوى ، أن العراق بات يعتمد بشكل متزايد على قدراته الذاتية، ولا سيما في المجال الجوي، حيث تُدار العمليات العسكرية وتُنفذ الضربات الجوية بإدارة عراقية كاملة، مع تطور ملحوظ في تسليح الجيش.
ويأتي ذلك، في ضوء إعلان قوة المهام المشتركة بقيادة الولايات المتحدة، في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، حصول القوات المسلحة العراقية على الشهادة الكاملة لتنفيذ الضربات الجوية المستقلة، بعد تحقيقها دقة استهداف بنسبة 100% باستخدام طائرات (F-16) و(AC-208).
واعتبرت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) في بيان لها ، هذا الإنجاز خطوة تاريخية نحو اعتماد العراق على نفسه في مواجهة تنظيم داعش، مؤكدة تراجع التهديد التقليدي للتنظيم وتشتت مقاتليه.
تغيير الأدوات
بدوره، أوضح المحلل السياسي رمضان البدران أن قرار إلغاء التفويض لا ينفصل عن الاستراتيجية الأميركية الأوسع القائمة على تجنب التدخل العسكري المباشر بقوات اجتياح في مناطق مختلفة من العالم.
وذكر البدران، أن انتفاء الحاجة إلى مثل هذا التفويض في الحالة العراقية يمثل أحد أسباب الإلغاء، إلى جانب منح الرئيس الأميركي صلاحيات مختلفة لإدارة عمليات تكتيكية محدودة تستهدف أي تهديدات تمس أمن أو مصالح الولايات المتحدة أو حلفائها.
وأشار إلى أن من أبرز ملامح هذا التحول الاعتماد المتزايد على الطائرات المسيّرة الصغيرة، ولاسيما في الشرق الأوسط، وهو ما يعني سحب تفويض استخدام الجيوش التقليدية دون تقليص قدرة واشنطن على التحرك لحماية مصالحها.
ويأتي ذلك، بالتزامن مع إعلان القيادة المركزية الأميركية، مطلع كانون الأول/ديسمبر 2025، عن تشكيل فرقة عمل جديدة للطائرات المسيّرة الهجومية في المنطقة.
اقتصاد بديل
من زاوية أكاديمية، وجد أستاذ العلوم السياسية في جامعة إكستر البريطانية هيثم الهيتي أن إلغاء التفويض باستخدام القوة ضد العراق يمثل بداية مرحلة جديدة تنتهي فيها حالة الحرب الأميركية مع العراق بشكل رسمي وكامل.
إلا أن الهيتي حذر، من أن هذا التحول لا يعني بالضرورة تخفيف الضغط الأميركي، بل انتقاله إلى المجال الاقتصادي والمالي.
ونبه إلى أن أي إشكال مستقبلي بين بغداد وواشنطن قد يُدار عبر أدوات العقوبات أو المحاسبة المالية، في ظل سيطرة الولايات المتحدة على مفاصل مهمة في النظام المالي العالمي.
وقال إن القرار تزامن مع منح وزارة الحرب الأميركية صلاحية تقليص المساعدات الأمنية بنسبة تصل إلى 50%، ما يعكس توجهاً واضحاً للتركيز على التعامل الاقتصادي بدلاً من العسكري.
وخلص الهيتي، إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه العراق في المرحلة المقبلة سيكون اقتصادياً ومالياً، في ظل النمو السكاني وتراكم الديون ومشكلات الفساد والتوظيف العشوائي، وهو ما تدركه واشنطن جيداً وتسعى للتعامل معه عبر أدوات غير عسكرية.
