• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

رئاسة الوزراء العراقية… مأزق النظام السياسي

رئاسة الوزراء العراقية… مأزق النظام السياسي

  • اليوم, 10:04
  • مقالات
  • 10 مشاهدة
إبراهيم العبادي

"Today News": بغداد 

بقلق بالغ، ينتظر العراقيون ساعة الإعلان عن مرشّح الإطار التنسيقي لرئاسة الوزراء، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من التفاوض مع المكوّنات العراقية الأخرى للاتفاق على رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان وتشكيلة الحكومة وبرنامجها.
وكأننا أمام المشهد ذاته الذي يتكرر بعد كل انتخابات تشريعية: استنفار سياسي، مداولات ثنائية وجماعية، حروب إعلامية وأخرى مسلّحة أحياناً—كما حدث في عام 2022—في سبيل التوافق على “الاسم” الذي سيُسند إليه منصب رئاسة الوزراء.

هذا المسار الطويل والمعقد، الذي يدخل فيه الفاعلون وأنصاف الفاعلين، والقوى السياسية برُمّتها ومعها داعموها الخارجيون، مايشبه  “البازار” السياسي الذي  تُعقد فيه المساومات وتُدار فيه المفاوضات السرّية والعلنية بحدة وشراسة، ويتقدّم فيه الأكثر قدرة على حياكة شبكة التوافقات وتمرير مرشّحه.
إنّ استمرار هذا المشهد بعد كل انتخابات ،  ليس مجرد اضطراب عابر في الحياة السياسية، بل مؤشر خطير على خلل بنيوي عميق في النظام السياسي نفسه. فمن الصعب القول إن ما يجري هو جزء طبيعي من عملية تعلّم ديمقراطي في دولة ناشئة؛ فالعملية السياسية تعيد إنتاج العطب ذاته، وتفشل في تجاوز المعيقات البنيوية التي تمنع ولادة حكومة مستقرة بعد  كل انتخابات عامة.

أين يكمن الخلل؟

لماذا يكرر العراقيون السيناريو نفسه؟ ولماذا لا تنجح العملية الانتخابية في إنتاج مخرجات واضحة تُنهي التنافس الشخصي الضيق على المواقع الحكومية؟ يظن كثيرون أنّ المشكلة محصورة في تقاطعات الكتل السياسية واختلافاتها المنهجية؛ إلا أن أصل العطب أعمق من ذلك: في النظام الحزبي وبنية النظام السياسي ككل.

وللإجابة، لا بد من العودة إلى الوظائف الأساسية للأحزاب السياسية كما يقررها علم السياسة. فالأحزاب تؤدي دوراً محورياً في الديمقراطيات عبر:
1.تمثيل مصالح الجماعات والفئات الاجتماعية والاقتصادية والمهنية.
2.تجميع المطالب والرغبات المختلفة وصهرها في برامج سياسية.
3.صياغة السياسات العامة والسعي لتحقيقها عملياً.
4.التحشيد السياسي وتجنيد الأعضاء وتطوير القيادات.
5.التنشئة السياسية ونشر الوعي والثقافة الديمقراطية.
6.توفير بدائل سياسية حقيقية للمواطنين.
7.تنظيم العملية التشريعية وممارسة العمل الحكومي والرقابة عليه.

ولكي تقوم الأحزاب بهذه الوظائف بنجاح، يفترض أن تتصف بخصائص جوهرية، منها:
•ديمقراطية داخلية حقيقية وتداول قيادي شفاف.
•شفافية التمويل وآليات اتخاذ القرار.
•برامج واضحة ورؤية اقتصادية وسياسية محددة.
•تمثيل شرائح اجتماعية واسعة وانفتاح على الجمهور.
•هياكل فعّالة وقدرات تنظيمية وانتشار وطني.
•تواصل مستمر مع الجمهور عبر قنوات متنوعة.
•قدرة على التجديد الفكري والسياسي والتكيّف مع التحولات المجتمعية .
من خلال مقارنة هذه الاشتراطات بالواقع العراقي، يتبيّن أن “الحزبية” لدينا ما تزال بعيدة جداً عن شكل الحزب الحديث القادر على إنتاج قيادات وطنية ذات رؤية، أو إدارة حكومية رصينة.
فالأحزاب القائمة تعاني من أمراض متجذّرة يصعب علاجها في ظل تراجع الثقافة السياسية وصعود الثقافة العشائرية والأبوية، وتحوّل العمل الحزبي إلى ممارسة قائمة على الزبائنية والمال السياسي والتأثير المسلّح.
 في خضم ذلك ضاعت  معايير الزعامة السياسية الحقيقية، وتراجع مستوى السياسيين، وتحولت السياسة إلى مشهد عبثي يتقدم فيه من يملك المال والسلاح والشعار الأكثر شحناً للعصب الطائفي أو القومي أو المذهبي.

بعد عشرين عاماً من العملية الانتخابية والعمل الحزبي المفتوح، لم تنجح البلاد في تشكيل أحزاب وطنية راسخة قادرة على تقديم قيادة حكومية مؤهلة. ما أفرزته التجربة هو  شيخوخة الاحزاب القديمة الايديولوجية وتكاثر قوى صغيرة تتنافس داخل مكوّناتها للحصول على حصص تضمن لها الثروة والنفوذ السياسي وهي احزاب تعتمد المال أو كما يسميها بعض المراقبين احزاب المليارات . وهكذا تحولت الانتخابات إلى عملية لا يقرّر فيها الشعب مصيره، بقدر ما تُعاد فيها عملية تدوير القيادات نفسها التي تتقاسم السلطة والمال والقرار.

وفي ظل غياب نظام حزبي قوي وأعراف سياسية راسخة ، يصبح الاتفاق على مرشّح لرئاسة الوزراء مهمة عصيبة ومعقدة وطويلة ؛ فكل زعيم يعتقد أن المنصب حق طبيعي له أو لمن يريده هو. واصبحت رئاسة الوزراء وظيفة ادارية يطمح بها واليها كل من هب ودب ،وبينما تتعقد المفاوضات وتتراجع فرص التوافق، يتعاظم أثر التدخلات الخارجية التي تمارس ضغطها وترجّح كفة هذا المرشح أو ذاك كما جرى خلال السنوات المنصرمة .

إنّ أزمة تشكيل الحكومات في العراق ليست مجرد صعوبة تفاوض سياسي، بل هي تجلٍ واضح لعقمٍ بنيوي في نظام سياسي لم يعد قادراً على إنتاج تداول طبيعي للسلطة. وستظل هذه المحنة تتكرر ما لم يُجرَ إصلاح سياسي شامل يعيد بناء النظام الحزبي، ويحدد آليات واضحة،  تُمكّن الأمة من اختيار قياداتها مباشرة دون وساطات زعامات تقليدية أو منظومات حزبية عاجزة ،أو عبر ايعازات خارجية للوكلاء النافذين .
إنّ استمرار هذا  الحال سيجعل من كل انتخابات نقطة بداية لأزمة جديدة، ومن كل حكومة مشروعاً مؤقتاً، ومن الدولة نفسها ساحة صراع على السلطة  لا ورشة عمل وطنية لإنتاج سياسات وخدمات وتنمية.

أخر الأخبار