• بغداد
    +31...+34° C
  • الموصل https://www.booked.net/
    +23...+29° C
  • كربلاء https://www.booked.net/
    +32...+37° C

فاطمة الزهراء (ع) : سيدة النور وبوصلة الوعي الإنساني

فاطمة الزهراء (ع) : سيدة النور وبوصلة الوعي الإنساني

  • 25-11-2025, 17:07
  • مقالات
  • 120 مشاهدة
د. وليد الحلي

"Today News": بغداد 


في ذاكرة الحضارة الإسلامية تبقى فاطمة الزهراء (عليها السلام) نبرةً مضيئة في نسيج الروح، وواحدة من أكثر الشخصيات التي جمعت بين السموّ الأخلاقي والوعي الاجتماعي، بين الرقة الإنسانية والقوة في المواقف، فغدت رمزًا تتقاطع عنده القيم الدينية والإنسانية. ولعلّ قول النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يؤكد على مكانة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وعلاقتها به، حيث قال: ( فاطمة بضعة مني، من أحبها أحبني ومن أبغضها أبغضني)، يفتح بابًا لفهم تلك المنزلة التي لم تُمنح لإنسان إلا لمقامٍ استثنائي.

1 - جذور التكوين في بيت النبوّة:
ولدت فاطمة في بيت تنزلت فيه الرسالة السماوية على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (ص)، وتشكل فيه ملامح الأمة الإسلامية. تفتحت عيناها على نور الوحي، وعلى صمود أبيها في مواجهة الجهل والاضطهاد. بعد وفاة أمها خديجة الكبرى(عليها السلام)، حملت – وهي طفلة – ما يعجز عنه الكبار؛ أدركت أن قلب النبي (ص) بحاجة إلى يدٍ تمسح عنه تعب الطريق، فكانت تلك اليد. ويروي التاريخ أن النبي كان إذا رآها قال (ص): ( فاطمة أم أبيها )  و( فداك أبوكِ كما كنتِ فكوني) في إشارة إلى عمق العلاقة الروحية بينهما وإلى أثرها البالغ في حياته اليومية.
هذا التكوين المبكر في بيت النبوّة جعلها شاهدة على نشأة القيم الإسلامية، لا متلقية لها فحسب. فكانت تُرى في طفولتها تمدّ يدها لأبيها حين يعود مثقلًا بتعب الدعوة، وتستوعب الصبر كمعنى قبل أن تتعلمه كلغة.

2 - بناء البيت النموذجي مع الإمام علي (ع):
عندما انتقلت فاطمة (ع) إلى بيت زوجها الإمام علي (عليه السلام)، كان تاريخٌا جديدا يبدأ بصمت. لم يكن ذلك البيت ثريًا بمال، لكنه كان غنيًا بقيم الشراكة والمودة. يقول الإمام علي (ع) عنها: ( والله ما أغضبتني ولا عصت لي أمرًا… وما رأيت منها إلا ما يسرني)، وهي شهادة لا يقدمها إلا رجل عرف جوهر شريكة عمره.
لقد بنيا معًا صورة الأسرة الإسلامية التي يتوازن فيها الحب مع الإيمان، والواجب مع الرحمة. وفي هذا المحيط نشأ الأئمة الأطهارالحسن والحسين ( عليهما السلام ) سيدا شباب أهل الجنة،  والحوراء زينب الكبرى بطلة كربلاء ( عليها السلام)، ليحمل كلٌ منهم فيما بعد راية من رايات الإصلاح والعدل. ويؤكد الإمام الحسن (ع) منزلة أمه حين سُئل: من أحبّ الناس إلى رسول الله (ص)؟ فقال: فاطمة.
هذا البيت لم يكن أسرة صغيرة فحسب، بل كان خليةً تربّت فيها الأجيال المؤثرة في مستقبل الأمة. وقد سجل المؤرخون أن نور فاطمة في محرابها كان يزهر لأهل السماء، كما قال الإمام الحسين (ع).

3- صوت الحق في زمن التحوّل:
لم تبقَ فاطمة في حدود الدور الأسري، بل كانت فاعلة في المشهد العام. وعندما رأت خطر الانحراف يهدد مسار الأمة بعد وفاة النبي (ص)، خرجت بموقفها المعروف دفاعًا عن حقها في فدك، لكنها في العمق كانت تدافع عن مبدأ العدالة وضمان عدم التلاعب بحدود الشرع. خطبت في المسجد النبوي خطبتها العالمة، التي امتلأت بالاستدلال القرآني والتحليل السياسي، لتكشف أن المرأة المسلمة تستطيع أن تجمع بين الحياء والبلاغة، وبين العقل والموقف. وبين العلم والسياسة.
لقد أدركت أن الصمت أحيانًا يُشرعن الباطل، فاختارت الكلمة، والسعي بالحجة، وهذا الدور جعل منها نموذجًا أكاديميًا للمرأة المفكرة التي لا تفصل بين الأخلاق والمسؤولية الاجتماعية.

4-  الإيثار: حين يصبح العطاء عقيدة
لم يكن العطاء عند الزهراء حالة طارئة، بل هوية أصيلة. تجلّى ذلك في حادثة إطعام المسكين واليتيم والأسير، حين صامت الأسرة ثلاثة أيام وتصدّقت بطعامها في كل ليلة، فنزل قوله تعالى:
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾.
هذا المشهد لا يعبّر عن حالة عبادية فحسب، بل يقدّم تصورًا اجتماعيًا يرى في إغاثة الضعفاء جزءًا من بناء الأمة. وكانت فاطمة (ع) تخدم بيتها بيديها حتى أثر التعب فيهما، ومع ذلك كانت تبدأ ليلة الدعاء فتدعو للناس قبل نفسها، فلما سألها النبي عن ذلك قالت (ع):( الجار قبل  الدار).

5- العفاف وسموّ الروح:
لم تكن الزهراء رمزًا للعلم والشجاعة فحسب، بل كانت تجسيدًا للحياء الرفيع. أوصت قُبيل رحيلها أن يُصنع لها نعش مستور لا يُظهر حجم الجسد، قائلة إن الحياء أحبّ إليها حتى بعد الممات. هذا الموقف، على بساطته الظاهرية، يحمل رؤية أخلاقية عميقة ترى في العفاف قيمة إنسانية تحمي كرامة الروح والجسد.

6-  البعد الروحي والمرجعية الأخلاقية:
مكانة فاطمة (ع) ليست نتاج الدور الاجتماعي فقط، بل هي امتداد لكونها من أهل الكساء الذين تشملهم آية التطهير. وقد وصفها النبي (ص) بقوله للإمام علي (ع): (هذه والله سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين).

كانت عبادتها مدرسة للخشوع، ودعاؤها مدرسة في التربية الروحية، وزهدها أساسًا لمنهجٍ أخلاقي يربط بين الإيمان والعمل. هكذا أصبحت مرجعًا معنويًا لا تُقرأ سيرتها من باب التاريخ وحده، بل من باب بناء الهوية الدينية.

7-: امرأة تكبر كلما تقدّم الزمن:
فاطمة الزهراء (ع) ليست ذكرى تاريخية تُقرأ ثم تُطوى، بل مشروع وعي يمتدّ عبر العصور. إنها الدليل على أن المرأة يمكن أن تكون قلب البيت وعقل الأمة في آن واحد؛ أن تجمع بين الحنان والقوة، وبين العفاف والموقف، وبين الروحانية والفاعلية الاجتماعية.
وحين أوصى النبي (ص) عليًا بها قائلاً: (احفظ الله واحفظني فيها) فإنه لم يوصِ بامرأة فقط، بل أوصى بكيان روحيّ هو امتداد الرسالة نفسها.
وبهذا تبقى الزهراء (ع) سيدة النور، وواحدة من أهم نماذج القيادة الأخلاقية في التاريخ الإسلامي، ومرجعًا يستلهم منه الباحث والأديب والإنسان العادي على حدّ سواء.

                  وليد الحلي
          3 جمادى الثاني 1447
             25-11-2025.

أخر الأخبار