قبل أكثر من 70 عاماً، كان نهرا دجلة والفرات يفيضان بالحياة، وكانت ضفافهما تُغذي أرض الرافدين وخصوصاً العاصمة بغداد بمليارات الأمتار المكعبة من المياه سنوياً.
ففي العام 1958، كان العراق يستقبل ما يقارب 95 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، فيما لم يكن عدد سكانه يتجاوز السبعة ملايين نسمة، يومها كانت الأنهار تجري بغزارة، والحقول خضراء، ولم يتخيل أحد أن أرض السواد قد تواجه يوماً خطر "العطش".
أما اليوم، وبينما يتجاوز عدد سكانه حاجز الـ46 مليون نسمة، تقلصت موارده المائية إلى أقل من النصف وتراجع خزينه المائي وجفت الأنهار، وأصبحت محطات الضخ عاجزة عن تلبية الاحتياجات.
وفي وقت يواجه فيه جنوب العراق جفافاً حقيقياً أدى إلى نزوح مئات الأسر من مناطقها، تبرز أهمية رصد وضع العاصمة العراقية التي تعتمد بشكل مباشر على الخزين المائي والتدفقات الواردة عبر دجلة والفرات، حيث أجرت وكالة شفق نيوز، تحقيقاً دقيقاً لكشف واقع المياه في بغداد ومدى تأثرها بالأزمة المستمرة على الصعيدين القريب والبعيد.
أرقام "صادمة"
ويمتلك العراق، حالياً ما يقارب ثمانية مليارات متر مكعب من المياه فقط، وهو ما يمثل نحو 8% من القدرة الخزنية الكلية للسدود والخزانات العراقية، والتي تبلغ طاقتها الاستيعابية نحو 100 مليار متر مكعب، وفقاً لمعلومات دقيقة حصلت عليها وكالة شفق نيوز.
وتعتبر التدفقات عبر نهري دجلة والفرات غير مستقرة ومتذبذبة بشكل كبير، وفي المقابل يبلغ معدل الاستخدامات المائية داخل العراق أكثر من 900 متر مكعب في الثانية، أي ما يعادل يومياً نحو 77.76 مليون متر مكعب لتأمين مياه الشرب والجريان البيئي، حيث أصبح هذا الرقم من الصعب توفيره في الظروف الحالية.
وتشير هذه المعلومات إلى أن إجمالي الإيرادات المائية الداخلة إلى العراق لا يتجاوز 1.19 مليار متر مكعب شهرياً، في حين أن الاستهلاك الفعلي للبلاد يصل إلى 2.53 مليار متر مكعب شهرياً، ما يعكس فجوة مائية خطيرة بين الموارد والمتطلبات.
أما تدفقات المياه القادمة من تركيا تحديداً، فقد انخفضت إلى ما دون 200 متر مكعب في الثانية، في حين أن العراق يطلق حالياً نحو 350 متراً مكعباً في الثانية لسد احتياجاته، بعد أن كانت التدفقات لا تتجاوز 85 متراً مكعباً خلال الفترات الماضية والتي شهدت تذبذباً كبيراً حيث تنخفض وترتفع حسب كميات المياه القادمة من تركيا.
وعلى صعيد التدفقات الإيرانية، فأن معظم الأنهار الموسمية القادمة من إيران انقطعت خلال السنوات الأخيرة، إذ كانت تعتمد على الأمطار والثلوج، وما تبقى فقط هو نهر "الكارون"، الذي كان يصب في شط العرب بتصاريف تراوحت بين 40 – 80 متر مكعب/ ثانية، إلا أن تدفقاته توقفت حالياً، ما تسبب بأضرار كبيرة لشط العرب نتيجة توقف جريانه.
أوضاع السدود والبحيرات
وتلجأ الجهات الحكومية العراقية إلى "التستر" على الأوضاع المائية في السدود والبحيرات، إلا أن المعلومات المؤكدة تذهب نحو أن سد الموصل، يمر بوضع حرج للغاية، إذ يطلق حالياً كميات مياه تفوق إيراداته بنسبة تصل إلى 57%، الأمر الذي يعرض الخزين المائي فيه لضغوط كبيرة ويهدد استدامته.
بينما بحيرة الثرثار، فقد انخفض منسوب المياه فيها بشكل كبير، ما دفع الجهات المختصة إلى الاعتماد على المضخات العائمة لسحب المياه وتأمين الإطلاقات، في ظل غياب أي إيرادات إضافية تغذي البحيرة حالياً منذ أشهر.
كم تحتاج بغداد؟
وتحتاج العاصمة العراقية بغداد وحدها إلى نحو 57 متر مكعب/ ثانية لتأمين مياه الإسالة (المياه الصالحة للشرب)، أي ما يعادل نحو خمسة ملايين متر مكعب يومياً، بخلاف احتياجات الزراعة وتوليد الكهرباء والاستخدامات الأخرى، والتي يتم تأمينها عبر المياه المخزونة في السدود.
تخطيطياً، يُقدر احتياج الفرد العراقي في العاصمة بغداد بـ200 لتر يومياً، إلا أن الاستهلاك الفعلي غالباً ما يكون أعلى من هذا الرقم بكثير.
وبحسب التقديرات الدولية، فقد تتراجع حصة الفرد العراقي إلى 479 متراً مكعباً سنوياً بحلول العام 2030، وهو رقم يقل كثيراً عن المعيار الذي حددته منظمة الصحة العالمية والبالغ 1700 متر مكعب للفرد سنوياً.
في المقابل، التوقعات الدقيقة تشير إلى أن بغداد لن تعاني من انقطاع مياه الإسالة مستقبلاً، لكن هناك مخاطر أكبر تلوح بالأفق أبرزها "التلوث"، والذي يعد الخطر الأكبر ويتمثل في تلوث مياه الشرب، إذ أن انخفاض المناسيب والتصاريف عن الحد الأدنى سيؤدي إلى إعادة تدفقات مياه الصرف الصحي إلى نهر دجلة، ما يشكل تهديداً بيئياً وصحياً خطيراً على عموم العراق والعاصمة على وجه الخصوص.
بينما هناك مخاطر مائية كبيرة وحقيقية ستواجه العاصمة بغداد، إذا كان موسم الشتاء المقبل قليل الأمطار.
ويدخل العراق 40 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، إلا أن سوء الإدارة والاعتماد على طرق زراعية قديمة في زراعة القمح والرز "الحنطة والشلب"، أسفرا عن خسارة جزء كبير من هذه الموارد المائية الحيوية والتي تذهب لزراعتهما.
تطمين حكومي
في غضون ذلك، طمئن المستشار المائي لرئيس الوزراء العراقي، طورهان المفتي، قائلاً إن "العراق الآن يعاني من شحة مائية وليس جفافاً بالمعنى الحرفي، وأن بغداد تعتمد على مياه نهري دجلة والفرات فقط، وبما أن المياه تتدفق في النهرين لذا لا خوف على العاصمة".
وفي حديث لوكالة شفق نيوز، يضيف المفتي، أن "الحكومة العراقية شيدت الآن خزان مائي سطحي كبير في العاصمة بغداد لخزن مياه الشرب لدرء أي مخاطر مائية مستقبلية".
لم تعد تداعيات الجفاف في العراق محصورة في خسائر المزارعين وتراجع الإنتاج الزراعي، الذي تقلصت مساحاته بما يقارب النصف خلال الأعوام الماضية وفق أرقام وزارة الزراعة، بل امتدت آثاره لتصيب قطاع مياه الشرب أيضاً، فقد أصبحت محطات الضخ عاجزة عن تلبية احتياجات السكان في عدد من المناطق نتيجة جفاف بعض الأنهار وانخفاض منسوب أخرى خصوصاً في جنوب البلاد.
مجلة "فوربس" الأمريكية حذرت بدورها من جفاف غير مسبوق يضرب العراق والشرق الأوسط، واصفة المنطقة بأنها من الأكثر جفافاً على الأرض، وأن تداعيات هذه الأزمة ستكون "مدمرة" إذا ما استمرت.
ونقلت المجلة عن عالمة المناخ ديانا فرانسيس، القول إن العراق وبلاد الشام يواجهان جفافاً شديداً هذا العام بسبب تداخل عوامل عدة، أبرزها انتهاء ظاهرة "النينو"، التي قلصت معدلات الأمطار، مبينة أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يملكان فقط 2% من الموارد المائية المتجددة عالمياً، ويضمان 12 من أكثر الدول معاناة من الشح المائي.