في مشهد يوجع الضمير، يقف المتقاعدون العراقيون، رجالاً ونساءً أفنوا أعمارهم في خدمة الدولة، على أبواب المصارف بانتظار راتب لا يكاد يسد رمقهم، بينما تغيب الحلول وتتصاعد التبريرات الرسمية تحت لافتة "أزمة السيولة". ما يُفترض أنه استحقاق إنساني وقانوني تحوّل إلى رحلة إذلال يومية تكشف عمق الفجوة بين وعود الدولة وواقع مواطنيها.
صور دامية وثّقت بكاء متقاعد فقد القدرة على شراء دواءه، وآخر توجّه بكلمات مُرة: "إذا مات أحدنا بسبب تأخير الراتب، فلتعتبروا ذلك جريمة مكتملة الأركان"، في شهادة تلخص مأساة جيل كامل يعيش على فتات مستحقاته وسط فساد ينخر في مؤسسات الدولة.
اللجنة المالية النيابية لم تجد سوى التلويح بخطوط حمراء، إذ أكد النائب كريم عليوي المحمداوي أن "رواتب المتقاعدين خط أحمر لا يجوز المساس به"، محذراً من خطورة التلاعب بصندوق التقاعد. لكنه في الوقت نفسه أقر بأن إطلاق الرواتب مرهون بتوفر السيولة، في اعتراف صريح بعجز دولة تمتلك أكبر ميزانية نفطية في المنطقة عن ضمان قوت من خدموها لعقود.
التحذيرات لم تتوقف عند البرلمان، إذ أطلق الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي جرس إنذار أشد خطورة، مبيناً أن أزمة الرواتب لن تقتصر على المتقاعدين فحسب، بل ستشمل الموظفين أيضاً، نتيجة تراجع إيرادات النفط وضعف قدرة الدولة على الاقتراض الداخلي. وبلهجة قاسية خاطب العراقيين قائلاً: "عليكم بالأحزمة فقد تحتاجون إليها قريباً، واللي ما يصدگ خل يروح يشرب من شط العرب".
أما جذور الأزمة، فتعود – وفق مصادر اقتصادية – إلى تقليص الولايات المتحدة التحويلات المالية المخصصة للعراق عبر البنك الفدرالي، إلى جانب تراجع أسعار النفط، وغياب أي بدائل اقتصادية حقيقية يمكن أن تنقذ الموازنة من الارتهان لمورد وحيد. هذه المعطيات خلقت فجوة قاتلة في السيولة، جعلت المتقاعدين أول الضحايا، فيما تتقاذف المؤسسات الرسمية الاتهامات بلا حلول.
الأزمة لم تعد مجرد تعثر مالي عابر، بل فضيحة وطنية تُعرّي هشاشة إدارة الدولة. أن يبكي متقاعد على باب مصرف لأنه لا يملك ثمن دواء، بينما يتحدث السياسيون عن "خطط مالية" و"أزمات سيولة"، هو إهانة لمفهوم العدالة الاجتماعية برمّته.
السؤال الجوهري اليوم: كيف يمكن لدولة تُدر أكثر من 100 مليار دولار سنوياً من النفط أن تعجز عن صرف راتب متقاعد؟ والجواب، كما يراه الشارع، أن الفساد والارتهان للخارج يلتهمان كل شيء، فيما يظل المتقاعد العراقي الحلقة الأضعف وضحية الإخفاقات المتكررة.